بسم الله الرحمن الرحيم
المساجد والجوال
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
لقد تعرف الله على عباده بأنواع التعرفات، ونصب لهم أنواع الدلالات، ليؤمنوا به ويفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ومن تلك الدلائل والآيات الباهرات ما جاء في قول الله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37].
وقد ملأ الله -تعالى- هذا الكون الذي نعيش فيه آيات عظيمة باهرة وعبرا وعظات {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].
تأملوا في هذا الكون وما يجري فيه من العبر واعرفوا عظمة خالقه -سبحانه- وأدركوا أنه لم يخلق هذا الكون عبثا وأنكم لن تتركوا سدى واعرفوا أنه من أعظم نعم الله عليكم أن مكانكم من هذه الأرض التي تعيشون على ظهرها وتدفنون في باطنها كما قال -تعالى-: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25، 26] وقال -تعالى-: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، وقال -تعالى-: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25]، وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
والآيات في هذا كثيرة، ومن رحمته أن أودع في هذه الأرض كل ما يحتاجه الخلق للعيش على ظهرها فبارك فيها وقر فيها أقواتها وجعلها قرارا قارة ثابتة لا تتحرك ولا تميد، وأرساها بالجبال حتى نتمكن من البناء عليها والعيش على ظهرها.
قال الإمام العلامة ابن القيم -رحمه الله-:
ثم تأمل خلق الأرض على ما هي عليه، حين خلقها واقفة ساكنة، لتكون مهادا ومستقرا للحيوان والنبات والأمتعة ويتمكن الحيوان والناس من السعي عليها في مآربهم والجلوس لراحاتهم والنوم لهدؤهم والتمكن من أعمالهم، ولو كانت رجراجة متكفنة لم يستطيعوا على ظهرها قرارا ولا هدوءا ولا ثبت لهم عليها بناء، ولا أمكنهم عليها صناعة ولا تجارة ولا حراثة ولا مصلحة وكيف يهتنون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم واعتبر ذلك بما يصيبهم من الزلالزل على قلة وقتها ، كيف تضطرهم إلى تركم منازلهم والهرب عنها وقد نبه الله -تعالى- على ذلك بقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64]، وقوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}، وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} [طه: 53].
لقد كثر وقوع الزلازل المروعة التي تدمر العمران وتهلك الإنسان وقد تتابع ذلك في سنين متقاربة.
وقد دمرت هذه الزلازل مدنا وهلك ألوف من البشر وشرد فيها مئات الألوف من مساكنهم..
وهذه الزلازل تسمعون أخبارها المروعة وتشاهدون صورها المفزعة عبر الشاشات والصحف والمجلات وهذه الزلال لا شك أنها عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والمعاصي وفيها عبر وعظات لأولى الألباب ودلالة على قدرة الله الباهرة حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرك بضع ثواني أو دقائق فينتج عن ذلك هذا الدمار وهذا الهلاك وهذا الرعب، ويكثر هذا في آخر الزمان كما دل على هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل القتل» [رواه البخاري].
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف». قال رجل من المسلمين: يا رسول الله! متى ذلك؟ قال: «إذا ظهرت القيان والمعازف، وشربت الخمور» [المحدث: الألباني، حسن لغيره].
هذا خبر من الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى يبين بيانا واضحا لا لبس فيه ولا غموض أن السبب في وقوع تلك الزلازل المروعة هو الوقوع في المعاصي والمخالفات وبالذات استمع المعازف والأغاني وظهور نساء مغنيات وشرب الخمور.
وهذه المعاصي بالذات لا تظهر إلا بعد انسلاخ المسلم من دينه فاستبدل قرآن الرحمن بقرآن الشيطان، واستبدل ما أحل الله بما حرمه من الخمور والمكسرات والمخدرات فإذا وصلت حال الأمة إلى هذا الحد من الإعراض، قضى الله عليها بالزوال والاستبدال قال -تعالى-: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] لأن وجود الأمة بهذا الشكل فاسد والله لا يحب الفساد.
أيها الإخوة قد يشك البعض في خطورة انتشار هذه المعاصي فإن كنتم في شك من ذلك، فانظروا إلى ما كتبه اليهود في بروتوكولات حكماء صهيون عن هذه المعاصي بالذات، يقولون كأس وغانية تفعلان في الأمة المحمدية ما لا يفعله مدفع ولا بندقية.
لقد أدرك الأعداء بإيحاء من الشيطان أن انهماك المسلمين في هذه المعاصي هو بريد تخليهم عن دينهم، رمز قوتهم وبقائهم، وهو بريد هزيمتهم وصغارهم، بل وسخط الله عليهم ومحقهم ومسخرهم والخسف بهم، قال -تعالى-: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، وهل يشك عاقل في هذا، أن الأمة ما حل بها ما حل من ذل وهوان إلا بعد أن وقعت فيما وقعت فيه من المعاصي والآثام وانتشار المعازف والموسيقى عبر الإذاعات والشاشات واستباحة بيع الأغاني وترويجها في كل مكان وإدخالها في كل شيء حتى بلغ الأمر أن أدخلت الموسيقى إل بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وذلك عبر نغمات الهواتف الجوالة، ومن كان يصدق أن يصل الأمر إلى هذا الحد من الغفلة والإعراض والانهماك في حب الغناء، بل وإدخاله إلى بيوت الله، واتباع خطوات الشيطان وما رسمه الأعداء للقضاء على هذه الأمة.
لقد أقسم بعض القساوسة على إدخال المعازف والموسيقى إلى المساجد، وقد بر بقسمه المسلمون فما تدخل ولا تصلى في
المسجد إلا وتسمع من صوت الشيطان ما يندى له الجبين، ويفسد الخشوع في الصلاة، ونذر بوقوع عقوبة عظيمة إن لم ينتبه المسلمون إلى حالهم ويتوبوا لربهم.
ذكر ابن القيم في الجواب الكافي، وفي إغاثة اللهفان حديثا رواه ابن أبي الدنيا عن أنس -رضي الله عنه- أنه دخل على عائشة -رضي الله عنها- هو ورجل آخر، فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة فقالت: إذا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضوربوا بالمعازف، غار الله -عز وجل- في سمائه، فقال للأرض تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا وإلا أهدمها عليهم قال: يا أم المؤمنين أعذابا لهم؟ قالت: بل موعظة ورحمة للمؤمنين، ونكالا وعذابا وسخطا على الكافرين فقال أنس: ما سمعت حديثا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا أشد فرحا مني بهذا الحديث.
إن ما يحل بالمسلمين من العقوبات في الدنيا تذكرة وموعظة ورحمة وتكفيرا لسيئاتهم ورفعا لدرجاتهم وهي لغيرهم من الكافرين والمنافقين نكالا وعذابا وسخطا في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
نسأل لله أن يعمنا بلطفه وأن يشملنا بعفوه ومغفرته، وأن يرفع عنا وعن المسلمين كل بلاء وفتنة وأن يهدي من ضل منا إلى جادة الحق، وأن يصلح القلوب والأعمال، وأن يكفينا شر المفسدين والمنافقين والفجار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.