السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إنّ هذه الأمةَ العظيمة ، أمّةٌ كريمةٌ مجيدة ، ما شهد التاريخُ مثلَها، وما عرفَ المخاضُ مولودًا أكرمَ على الله منها ، أمّةٌ تغفو ولكنّها لا تنام ، قد
تمرض ولكنّها لا تموت ، أمّةٌ أنجبت للدّنيا علماء فقهاء ، وأخرجت للكون أبطالاً شرفاء ، ولنا اليومَ وقفةٌ مع تاريخِ هذه الأمة ، لنقلّبْ الصفحات نلتمّسُ العبَر
والعِظات.
إن الحديث في سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سطروه من عظمةٍ واجب في هذا العصر الذي نعيش فيه اضطراب الموازين ،
ومولاة الكفار ، والوقوع في الصحابة الأبرار ، من قبل أهل البدع والرفض والفجار. ذِكرهم واجبٌ لردع أهل الهوى من الزنادقة وأهل الكفر والابتداع الذين
انتقصوا وسبّوا أخيَر جيل وجِد على الأرض ، لا لشيء إلا لأنهم حملةُ الإسلام ورواة الحديث ، التي تهدم بدعهم وتُظهرُ ضلالاتهم ، فرضي الله عنهم وأرضاهم ،
وسلط العذاب على من أبغضهم وعاداهم .
وينبغي لنا أن نتذاكر سيرتهم بين الفينة والفينة ، ونغرسُها في نفوسنا ، ونجعلَها مثلاً أعلى ، يحتذى ويقتدى بها. وإننا اليومَ على موعدٍ مع واحد من
هؤلاء العظماء ، ورجلٍ من خِيرة رجالاتها ، إذا ذُكر الخوفُ قيل: كان له خطّان أسودان من البكاء، وإذا ذُكر الزّهدُ والإيثارُ قيل: لم يكن يأكل حتى يشبَع
المسلمون ، وإذا ذُكِرت الشدّةُ في الحق قيل: هو الذي كان إبليسُ يفرقُ من ظلّه ، والشياطينُ تسلُك فجًّا غيرَ فجِّه. قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه :
(كان إسلامه فتحًا ، وهجرته نصرًا ، وإمارته رحمة ، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم) تولى أمرَ المسلمين فطوى فراشه ، وقال: (إن نمتُ
بالنهار ضاعت رعيتي ، وإن نمتُ بالليل ضاعت نفسي) بذكره يُذكرُ العدلُ وتطيبُ به المجالس ، كيف لا ، وقد تخرج من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم وأبي
بكر الصديق رضي الله عنه يقول عنه عليٌ رضي الله عنه وهو يُكفن : (والله ما أريدُ أن ألقى الله بعملِ رجلٍ إلا بعملِ رجلٍ مثلك). إنه شهيد المحراب ،
الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه، وجمعني وإياكم في زمرته ، نتحدثُ اليومَ عن عمر .
إن حياته رضي الله عنه كُلُُها عِبرٌ ودروس ، ولكن عن ماذا نتحدث ، أنتحدث عن دينه وعلمه ، أو عن زهده وورعه وتقواه ، أو عن حُكمه
وسياسته وعدله ، أو عن شجاعته وقوته وجهاده ؟! حقًا إنك لتحتار ، لكن حسبنا من القلادة ما أحاطت به العنق ، علنا نعتبر بما نسمع.
إن جاع في شدةٍ قـومٌ شركتَهُمُ ..........في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها
جـوعُ الخليفة والدنيا بقبضته .............في الزهد منزلةٌ سـبحان موليهـا
فمن يباري أبا حفص وسـيرته ............. أو من يحاولُ للفـاروق تشبيهـا
أسلم رضي الله عنه لما سمع ( طه * مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ * إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىٰ * تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق ٱلأرْضَ وَٱلسَّمَـٰوٰتِ ٱلْعُلَى* ٱلرَّحْمَـٰنُ
عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ) فَسَرَتْ في قلبه ، وحركت وجدانه ، فتحول من حال إلى حال.
قد كنت أَعدى أعاديها فصرت لها ......... بفضل ربك حصناً من أعاديهــا
قل للمـلوك تنحـوا عن مناصِبِكم .........فقـد أتـى آخذ الدنيا ومعطيها
حلَ بأبي بكر رضي الله عنه سكراتُ الموت فكتب لعمر: (بسم الله الرحمن الرحيم ، من أبي بكر إلى عمرِ بن الخطاب، وأنا في أولِ أيامِ الآخرةِ
وآخرِ أيامِ الدنيا ، أما بعد: فيا عمر ، قد وليتكَ أمرَ أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم فإن أصلحت وعدلت فهذا ظني فيك ، وإن اتبعت هواك فالله المطلعُ على
السرائر ، وما أنا على صُحبة الناس بحريص ، يا عمر ، اتق الله ، لا يصرعَنّك الله مصرعاً كمصرعي والسلام).تولى عمرُ الخلافةَ ، وبحث عن ميراث أبي بكر
فإذا هو ثوبان وبغلة ، فبكى ، وقال: (لقد أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر).
عرَف رضي الله عنه ربَّه ، وعرف قدرَ نفسه ، فتواضع لله ، فرفَع الله ذكرَهُ وأعلى شأنه ، قال عُبيد الله بن عمرُ بن حفص: لقد حملَ عمرُ بن الخطاب رضي
الله عنه قِربةً على عُنقه فقيل له في ذلك فقال: إنّ نفسي أعجبتني فأردتُ أن أذلَّها.
بويع بالخلافة فكان سيفًا على أهل الباطل شديدًا عليهم ، وسندًا لأهل الحقّ ليِّنا معهم ، قام على الأرامل والأيتام ، فقضى لهم الحاجات ، وفرّج عنهم الكربات ، ذكر
الأوزاعيُ رحمه الله تعالى أنه رضي الله عنه خرج في ليلةٍ مظلمة فرآه طلحة رضي الله عنه قد دخل بيتًا ثم خرَج ، فلمّا أصبح طلحة ، ذهب إلى ذلك البيت ، فإذا فيه
عجوزٌ عمياءٌ مقعدَة ، لا تقدِر على المشي، فقال لها طلحة: ما بال هذا الرجل يأتيك؟! فقالت: إنه يتعاهدني من مدّةِ كذا وكذا بما يصلِحني ويخرج عني
الأذى،ثم قال طلحة : ثكلتك أمك ياطلحة ؟ أعثرات عمر تتبع .
ولما رجع رضي الله عنه من الشام إلى المدينة انفرد عن الناس ليتفقّد أحوالَ الرعية ، فمرّ بعجوزٍ في خِباء لها فقصدها ، فقالت: يا هذا ، ما فعل عمر؟ قال:
قد أقبل من الشام سالمًا ، فقالت: لا جزاه الله خيرا ، قال: ولمَ؟ قالت: لأنّه والله ما نالني من عَطائه منذ تولّى أمرَ المسلمين دينارٌ ولا درهم ، قال:
وما يدرِي عمرُ بحالِك وأنت في هذا الموضع؟! فقالت: سبحان الله! والله ما ظننت أن أحدًا يلي على النّاس ولا يدري ما بين مشرِقها ومغرِبها، فبكى
عمر ، وقال: واعمراه ، كلّ أحدٍ أفقه منك يا عمر ، حتى العجائز. ثم قال لها: يا أمةَ الله ، بكم تبيعيني ظُلامَتِكِ من عمَر ، فإني أرحمه مِنَ النّار ،
فقالت: لا تستهزئُ بنا يرحمك الله ، فقال: لست بهزّاء ، فلم يزل بها حتى اشتَرَى ظلامتُها بخمسةٍ وعشرين دينارا. فبينما هو كذلك ، إذ أقبل عليُّ بن أبي
طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ،فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فوضعَت العجوز يدَها على رأسها وقالت: واسوأتاه! شتمتُ أميرَ
المؤمنين في وجهِه ، فقال لها عمرُ رضي الله عنه : ما عليك يرحمك الله، ثم طلب رقعةً من جِلد يكتب عليها فلم يجد ، فقطعَ قطعةً من مرقعته وكتب فيها:
(بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما اشترى به عمر من فلانةٍ ظلامتُها منذ ولي إلى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارا ، فما تدّعي عند وقوفها في الحشر بين يدَي
الله تعالى فعمرُ منه بريء. شهد على ذلك علي وابن مسعود) ثم دفع الكتاب إلى أحدهما وقال: إذا أنا متّ فاجعله في كفني ألقى به ربي .
كان عمرُ رضي الله عنه يأخذ الدنيا في يوم ، ويسلمها للفقراء في يوم. تأتيه القوافل محملة بالغنائم والفيء والذهب والفضة ، وتدخلُ المدينةَ ، وخليفة المسلمين
يصلي بالناس في بردته وبها أربعَ عشرةَ رقعة تختلف بعضُها عن بعض.
قلبَ إمبراطوريةَ هرقلَ وكسرى ، وجعل عاليها سافلها ، وغِنمَ أموالها ، ولا يجدُ خبزَ الشعير ليأكله. يُقبلُ الليلَ وتهدأ العيونُ وينامُ الناسُ فيأخذ عمر رضي الله
عنه دُرته ويجوب بها سككَ المدينة علّه يجد ضعيفا يساعده أو فقيرا يعطيه أو مجرمًا يؤدبه.
مرض ذات مرة فوُصفَ له العسل ، وكان في بيت المال عكّةٌ فيها شيء من العسل ، فصعد المنبر وقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها ، وإلا فهي علىّ حرام ، فأذنوا
له بها .
وتستمرُ مسيرةُ عمر رضي الله عنه ويدخلُ عامُ الرمادة سنة ثماني عشرة للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، ويموت الناس جوعًا، ويحلف عمر رضي الله
عنه أن لا يأكل سمنًا حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين ، ووقف على المنبر يومَ الجمعة يخطبُ الناس ببردته المرقعة ، ووالله لو أراد أن يبني بيته بالذهب
لاستطاع، ولو أراد أن يمشي من بيته إلى المسجد على الحرير لفعل ، لكنه يقف على المنبر أثناء الخطبة فيقرقر بطنه من الجوع، فيقول لبطنه: قرقر أو لا
تقرقر، فوالله لا تشبعُ حتى يشبعَ أطفال المسلمين.
أما حاله مع ولاته فقد ورد في السير أن رجلاً من مصرَ جاء إلى عمرَ شاكيًا محمدَ إبن عمرو بن العاص حيث اشترك معه في سباقٍ، فلما سبقه ضربه وقال له :
خذها وأنا ابن الأكرمين ، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن استدعى عمراً وابنه محمد ، وقال للرجل: خذ الدرّةَ فاضرب بها ابن الأكرمين ، فلما انتهى
قال: خذ الدرةَ واضرب بها عمرًا ، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه ، فقال الرجلُ: يا أمير المؤمنين ، قد استوفيتُ حقي وضربتُ من ضربني ، فقال
عمر: أما والله لو ضَربتهُ ما حلنا بينك وبينه ، ثم التفت إلى عمرو وقال له: يا عمرو ، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! مؤكدًا رضي
الله عنه على إعطاءِ الناسِ حقوقهُم وإقامةِ حدودِ الله فيهم.
ويكتب رضي الله عنه إلى عتبةَ إبن فرقد وكان قد ولاه على أذربيجان ، فقال له: إنه ليس من كدّ أبيك ولا من كدّ أمك ، أي: إنّ هذا الذي تأخذه من بيت مال
المسلمين ليس من كدّ أبيك ولا من كدّ أمك ثم قال له: فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبعُ منه في رحلك،وإياك والتنعمُ وزي أهل الشرك ولباس الحرير.
وكان رضي الله عنه إذا أصدر تعليمات بالمنع من شيء أو نهى عن شيء جمع أهله وأقاربه وقال لهم: إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنهم لينظرون إليكم نظر
الطير إلى اللحم،ولا أجد أحدًا منكم فعل ما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة.
يخرج رضي الله عنه ذات مرة إلى السوق فيرى إبلاً سمينةً قد تميزت عن إبل المسلمين ، فيسأل: لمن هذه؟ فيقولون: لعبد الله بن عمر رضي الله عنه
فغضب وأرسل في طلبه، وسأله عن الإبل فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : إنها إبلٌ هزيلة اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى الحِمى لأرعاها ، فقال له عمر:
ويقول الناس حين يرونها: ارعوا إبلَ أميرَ المؤمنين واسقوها ، وهكذا تسمن ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين ، يا عبد الله، خذ رأسَ مالكَ منها،واجعل الربحَ
في بيت مال المسلمين.
هذا هو عدل عمر رضي الله عنه فالقرابة عنده لا تعني المحاباة وإلغاء القوانين وأكل أموال الناس ، بل القرابةُ عنده رضي الله عنه من المتابعة والمسؤولية والبعد
عن كل شبهه ،ومطالبة ذويه بأن يكونوا على قدر من المسؤولية ويكونوا عونًا على الواجب.
أما حاله مع اليهود والنصارى فقد اشترط رضي الله عنه أن لا يظهروا الصليب على كنائسهم، ولا في شيء من طرق المسلمين، وأن لا ينشروا كُتُبَهم أو يظهروها
في أسواق المسلمين ، لقد كان رضي الله عنه يمنعُ من استعمال الكفار في أمور الأمةِ أو إعزازهم بعد أن أذلهم الله، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه :
قلت لعمر رضي الله عنه : إن لي كاتبًا نصرانيًا، فقال: أما سمعت اللهَ يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ) ألا اتخذت حنيفًا ـ يعني مسلمًا ـ؟! قال: قلت: يا أمير المؤمنين ، لي كتابته وله دينه ، قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ، ولا أعزهم إذ أذلهم
الله ، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله . إنها رسالة إلى أصحاب العمل والعمال الذين يستقدمون الكفار للأعمال ويقدمونهم على إخوانهم المسلمين .وإنها رسائل
لكل من إتمنه الله على رعية ليحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، بارك الله لي ولكم
sdvi hldv hgl,lkdk