حلم .. بعض الأحلام تعشقها وتود تكرارها دائماً .. والآخر كابوس يطبق على الصدر ..
وما رأيته في منامي من حلم ..
كان في بدايته طلب الطرف الآخر أن يكون اللقاء بعيداً عن الأعين .. وإذ به على رؤوس جبال شاهقة حالكة السواد ..!
جلسنا نحن الثلاثة .. ودار الحديث بين طرفين فقط جلسا بالقرب من بعضهما
.. وكنت انا أحد الطرفين .. وهو أشبه مايكون بالإستجواب ..! وأبديت وجهة
نظري بدون رتوش .. والعين الثالثة ليست قريبةً جداً ولكنها تحاول أن ترقُب
حركات الشفاه .. وما يدور بيننا ..!
وبينما أنا على هذا الحال من الرد على الإستجواب .. إذ بأجمل صوتٍ في الوجود .. صوت يشق عنان السماء ويصدح في الأفق ..
الله أكبر .. الصلاة خير من النوم ..!
لأستيقظ من نومي لبداية يومٍ جديد ..
هذا
الحلم قادني لأن أتأمل وأفكر بـ لون المطر .. وعنوان الطُهر .. والصفاء ..
والإيثار .. وأجمل مافي الحياة .. ومثال الإخلاص والمحبة .. هي لحن الربيع
.. بضمها لصدرك تنسى همك وحزنك واحبابك .. وبغيابها تحس بغياب كل من في
الوجود .. بل الوجود نفسه .. وأن حياتك بلا طعمٍ أبداً ..
يكفيها أن الجنة تحت أقدامها ..
إنها الأم .. طُهر الأرض ..
تحملت مصاعب الدنيا ومشاقها .. ومشت على الشوك بأرجلٍ حافية .. ولم
تبالِ بنفسها فقد سهرت وتعبت .. حملت على عاتقها غلطات الزمن وغلطات
القريبين منها ..! كل ماحولها يوحي بـ حزن كثيف وبؤس وقهر ..
فـ شعرت بـ الحزن , يئن في حنايا قلبها ..!
وبـ رقصة الألم في وريدها ..!
وبـ اعتكاف الأسى في خلايا دمها ..!
وبـ الوجع , يعزف على أوتار حياتها ..!
كل هذا .. لم يقذف بها إلى سواحل السقوط ..!!!
فلقد فتحت ثقباً في جدار حياتها حتى أبصرت بصيص أمل ..
تحلم كأي فتاة في الدنيا .. تحلم بـ جنةٍ صغيرة ..
ترويها بروحها , وحولها عصافير تغرد وتملأ عليها جنتها .. لطالما فكرت بـ الفستان الأبيض ..!
فـ روحها ومهجتها تعلقت به .. ولطالما رأت نفسها مرتديته وطائرة به وسط
الغيوم البيضاء وحولها أسراب النورس , ويديها تتشابك مع فارسها ..
كل ليلة تغفو وتصبح على هذا الحلم الوردي ..!
تمت ليلتها .. وسط الأحباب والأصحاب والأقراب .. وتحقق حلمها الذي
يراودها دائما .. كان الفرح هو عنوان ليلتها .. وسط بعض الحسد من بني جنسها
.. بإمتلاكها قلب فارسها ..!
لم تمضي سنة حتى رزقت بمن يزين لها حياتها .. عصفورة صغيرة .. بل عروسةٌ كـ القمر ..
كـ البدر ليلة اكتماله .. براءة الدنيا كلها في عينيها .. تعلق بها الجميع .. وهاموا بحبها مع قليلٍ من العطف والشفقة ..!
أحاطتها بكل رعاية واهتمام .. تماماً كما لو أنها مازالت نطفة في
أحشائها ..! فـ روت جفاف قلب ابنتها .. وأسقطت حُبها عليها كـ زخة مطر نقية
,
حتى اورقت أغصانها واكتست زهراً..!!!
سهرت عليها ليالي وليالي عند مرضها .. حتى عند نومها تنتابها نوبة خوف ..!
فـ تمسح على رأسها وتذرف سيلاً من دمعات المستقبل المجهول - وما يُخبئ
لها من مآسي - على خصل شعرها المتناثر كـ الحرير عندما تحتضنها ,
وقبل مغادرتها ترسم قبلةً حانية من شفاهها على وجنتيها الندية , لـ ترتسم كـ الوشمٍ ,
ثم تلحفها جيداً خوفاً من لسعات البرد القارسة أن تتسلل إلى جسمها الناعم ,
فالثلج ملأ الأزقة .. وصوت حفيف الأشجار ينذر بـ ليلةٍ كـ الزمهرير ..!
تتجه لزاويتها فترمي بجسدٍ منهك متهالك على فراشها البارد ..!! علّها تخلد للنوم ..
ولكن ما إن تحاول غمض جفنيها حتى تبدأ طوابير الدموع بـ شق طريقها
والانهمار على وسادتها التي طالما اعتادت على حرارة دموعها كل ليلة ..
حتى بزوغ خيط الفجر .!
تيقضها صباحاً بـ ابتسامة دافئة وتحثها على الذهاب لمدرستها .. تعد لها
وجبة الإفطار مع كوبٍ من الحليب الساخن .. وتغادر حاملةً حقيبتها المدرسية
وعينها تراقب حركاتها وسكناتها ولسانها يلهث بالدعاء لها ..
وعند تأخر باص مدرستها قليلاً يأكل الخوف قلبها المسكين .. وتبدأ الدمعات بـ الإنحدار مع طريقها الذي اعتادت عليه ..!
فتقف عند باب منزلها الصغير تترقب صوت الباص من بعيد .. ويديها تفركهما
بلا هوادة على فلذة كبدها .. وبعودتها تستقبلها بكل لهفة وتضمها لصدرها
الحنون , ضمة عاشق لم يرَ محبوبته منذ سنين ..!
كل ذلك وسط غياب تدريجي من الأب العابث..!! فقد بدأ يسحب نفسه شيئاً
فشيئاً .. حتى استقر به الحال تقريباً في عشه الجديد .. تاركاً اُماً تصارع
وتحارب من أجل لقمة عيش ابنتها ..!
تتعاطف معها كل الأجساد والعيون ..!
ويكبرون فيها تضحيتها وصمودها رغم الألم والأسى ..!
هكذا هي حياتها .. فقد اختبات خلف الأسوار .. كأنثى فقط على هامش الحياة ..!
فقد أسكنت في حناياها ابنتها فقط ..!!
لـ تُحيطها بـ نور يجلي الليلٌ البهيم .. لـ تسعد في حياتها .. هذا جُل ما توده وترجوه ..!!
ولكن
دارت رحى الزمن .. وأرهقها الركض في تفاصيل الحياة .. بدى هذا واضحاً على تقاسيم الوجه الذي اختفت ملامحه ولعبت فيه التجاعيد ..
وأثناء ذلك كبرت ابنتها وأصبحت كـ وردة جوري متفتحة .. كـ تفاحة نظرة ..
وكـ زهرة ندية تعب بها الحياة ..
تغازل الوجوه أنوثتها ..! فتستمتع بما تسمع من كلمات إطراء ومديح لمفاتن
جسدها .. حتى باتت تعشق أي أحد يرشقها بكلامٍ معسول .. فتلبي له ما يريده
...! فكم رقص على جسدها أجساد ..!
لا مبالاة هي عيشتها .. ولا حدود للحياء في قاموسها ..! فلقد ألغت كل من له علاقة بالخطوط الحمراء ...!
إرتدتها الفتنة .. تمادت في غيِها .. وسلكت طريقاً آخر ..!
والطُهر اعياها المرض .. فلم تكن قادرة على متابعتها .. وأدركت أن الإنحراف هو الطريق الذي سلكته ابنتها ..!
هل أخطأت تأديبها ؟ هل أخطأت خطواتها ؟
أم هي لعنة حلّت بها ..!!
وكأنها لم تعش عيشة البؤس في حياتها ولم يعرف لها طريقاً ..!
أي عقوق هذا ؟؟
عاشت .. آسف [ عاثت ] بكل تضحيات الطُهر..! تمردت على تربية لون المطر
..! تمردت على حياءها .. تمردت على العادات والتقاليد .. وانساقت مع نفسها
وملذاتها ..
حتى أصبحت تفاحة تلفظها كل الأفواه ..!!
وبقايا أُنثى ملوثة على قارعة طريق الرخصاء ..!!
آآآه أيتها الطُهر .. هل ستتحملين وأنتِ في هذه الحال الضعيفة ..؟
لا أعتقد ..!
وطُهر الأرض الآن سـ تعلن الرحيل الأبدي مُجبرة - ولعلها تمنت ذلك - ..
ويديها تمسك بـ ماتبقى لها من قوة بـ صورة ابنتها وهي صغيرة .. لـ ترمقها
بنظرة وداع على ماضٍ سرقها حياتها , وذكرى تعبق بها زوايا الذاكرة ..
ويجيش في صدرها كلامٌ كثير كـ أسراب طيور مهاجرة ..!
ولكنها لاتقوى على إخراجها ..! فقد خارت قواها .. تقول كلمة متقطعة ..
غير مفهومة .. تسمعك حروفاً , فالأول مرتخياً .. والآخر يئن في جوفها
ولايخرج بسهولة ..
فتحاول جاهدةً جمع قواها وعينها على الصورة فتقول لها : خسارة ...!!
فتمتم بـ أشهد ألا إله إلا الله - بكل ثقل - ..
ولـ أنفاسها .. شخرة .. وأخرى .. وأخرى
حتى لفظت آخر قطرة طُهرٍ من رئتيها...
jthpm jgt/ih ;g hgHt,hi